اتفاقية أوسلو: التحول التاريخي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

مقدمة

تُعد اتفاقية أوسلو واحدة من أكثر الأحداث السياسية أهميةً في تاريخ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي الحديث، حيث مثلت تحولًا نوعيًا في العلاقة بين الطرفين، ونقطة انطلاق لمسار جديد اعتمد الحوار السياسي المباشر بديلاً عن المواجهة العسكرية المستمرة منذ منتصف القرن العشرين. وُقعت الاتفاقية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وكانت محصلة لسلسلة من المفاوضات السرية المعقّدة التي جرت بعيدًا عن الأضواء الإعلامية، وأسفرت عن أول اعتراف متبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

لم تكن اتفاقية أوسلو مجرد اتفاق تقني بين طرفين سياسيين متنازعين، بل شكلت تحولًا في بنية التفكير السياسي الفلسطيني، وفي استراتيجيات إدارة الصراع لدى الجانب الإسرائيلي. فقد مهدت الاتفاقية الطريق لإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، ومثلت من وجهة نظر البعض فرصة لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، بينما اعتبرها آخرون خطأ استراتيجيًا أضاع إنجازات نضالية كبيرة ولم يحقق الأهداف الوطنية المرجوة. لذلك، فإن اتفاقية أوسلو تبقى حتى اليوم موضوعًا مثار جدل واسع في أوساط النخبة السياسية الفلسطينية والعربية والدولية.

السياق التاريخي الذي سبق اتفاقية أوسلو

لفهم أبعاد اتفاقية أوسلو، لا بد من الرجوع إلى السياق التاريخي والسياسي الذي أدى إلى ظهور الحاجة إلى مثل هذا الاتفاق. فبعد نكبة عام 1948، تأسست إسرائيل على أنقاض المدن والقرى الفلسطينية المهجّرة، مما أدى إلى تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى دول الجوار. تبع ذلك نكسة 1967 التي احتلت فيها إسرائيل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) إلى جانب الجولان السوري وسيناء المصرية.

منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964 تطورت لتصبح الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، واعتمدت الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير الأرض. ومع ذلك، فإن التغيرات الإقليمية والدولية، من بينها انهيار الاتحاد السوفييتي، واتفاقيات السلام الإسرائيلية مع مصر ثم الأردن، إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، دفعت الأطراف الدولية إلى التفكير في حل سياسي ينهي النزاع المستمر.

الولايات المتحدة، باعتبارها الراعي الأساسي للعملية السياسية، مارست ضغوطًا على الطرفين للتفاوض، لكن التقدم الحقيقي لم يحدث إلا حين جرت مفاوضات سرية غير رسمية في العاصمة النرويجية أوسلو، بعيدًا عن أعين الإعلام والتأثيرات السياسية المباشرة.

المفاوضات السرية في أوسلو

بدأت المفاوضات في أوسلو في يناير 1993 بمبادرة من معهد فاوست النرويجي، وتحت إشراف وزير الخارجية النرويجي، وشملت شخصيات فلسطينية بارزة تمثل منظمة التحرير، أبرزهم أحمد قريع (أبو علاء) وحسن عصفور، بينما مثل الطرف الإسرائيلي أعضاء من وزارة الخارجية وأكاديميون لهم صلات وثيقة بصنع القرار، أبرزهم يائير هيرشفيلد وأوري سافير.

كانت المفاوضات في البداية مبنية على صيغة غير رسمية، إذ لم تكن الحكومة الإسرائيلية تعترف رسميًا بمنظمة التحرير، والعكس صحيح. إلا أن التقدم الذي أحرز في المحادثات شجّع الطرفين على المضي قدمًا، إلى أن تم التوصل إلى ما سُمي بـ “إعلان المبادئ” في أغسطس 1993.

الإعلان الرسمي وتوقيع الاتفاقية

في الثالث عشر من سبتمبر عام 1993، تم التوقيع على اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض في واشنطن، بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. تضمن الاتفاق إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي للفلسطينيين، ومهد الطريق لبدء عملية تفاوضية على مرحلتين: أولى انتقالية تستمر خمس سنوات، وأخرى نهائية تبحث في قضايا الوضع النهائي مثل القدس، واللاجئين، والحدود، والمستوطنات.

البنود الرئيسية في اتفاقية أوسلو

يمكن تلخيص أبرز البنود التي جاءت في إعلان المبادئ على النحو التالي:

اتفاقيات لاحقة مكملة لأوسلو

بعد توقيع الاتفاقية، تمت سلسلة من الاتفاقيات التفصيلية المكملة، من بينها:

• اتفاق غزة–أريحا أولاً (مايو 1994): نص على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومدينة أريحا، وتمكين السلطة الفلسطينية من الحكم فيهما.

• اتفاق طابا أو أوسلو 2 (سبتمبر 1995): توسع في الترتيبات الأمنية والإدارية، وقسم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق (A، B، C) حسب السيطرة الأمنية والإدارية.

هذه التقسيمات أدت إلى تعقيد كبير في الواقع السياسي والجغرافي الفلسطيني، حيث أصبحت مناطق الضفة الغربية أشبه بجزر مفصولة، مما أعاق التنمية والبنية التحتية الفلسطينية لاحقًا.

ردود الفعل الفلسطينية والعربية

اتفاقية أوسلو أثارت ردود فعل متباينة في الساحة الفلسطينية. فبينما رآها البعض بداية لتحرر تدريجي وتحقيق حد أدنى من الحقوق الوطنية، اعتبرها آخرون تنازلًا خطيرًا عن جوهر القضية الفلسطينية، خصوصًا أنها لم تضمن حق العودة للاجئين، ولم تلزم إسرائيل بوقف الاستيطان أو تحديد حدود نهائية للدولة الفلسطينية.

شهدت الأراضي الفلسطينية انقسامًا سياسيًا بين المؤيدين والمعارضين، تمثل في تأييد حركة فتح وبعض الفصائل للاتفاق، ومعارضة حركتي حماس والجهاد الإسلامي بشدة، بل وتنفيذ عمليات مقاومة مسلحة ضد أهداف إسرائيلية ضمن رفضها للعملية السياسية برمتها.

أما على المستوى العربي، فقد كان هناك تأييد حذر من بعض الأنظمة العربية، في حين التزمت أخرى الصمت أو أعلنت تحفظاتها، خصوصًا في ضوء ما اعتُبر تجاوزًا للإجماع العربي الذي اشترط الانسحاب الكامل مقابل السلام، كما ورد في مبادرة السلام العربية لاحقًا.

تأثير اتفاقية أوسلو على الواقع الفلسطيني

من الناحية العملية، لم تحقق اتفاقية أوسلو طموحات الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، بل أدت إلى تعقيد أكبر في الواقع الميداني. فبدلاً من الانسحاب الكامل، وسعت إسرائيل من نشاطها الاستيطاني في الضفة الغربية، وواصلت سيطرتها الأمنية على معظم المناطق المصنفة C، التي تشكل حوالي 60% من مساحة الضفة.

كما أن السلطة الفلسطينية التي تأسست بموجب الاتفاق تحولت إلى كيان إداري محدود الصلاحيات، محاصر اقتصاديًا وسياسيًا، وتعرضت لعدة أزمات داخلية وخارجية، بما في ذلك الحصار الإسرائيلي، والانتفاضة الثانية، والانقسام السياسي بين الضفة وغزة عام 2007.

الانتقادات الرئيسية لاتفاقية أوسلو

من أبرز الانتقادات التي وُجهت إلى اتفاقية أوسلو ما يلي:

1. تأجيل القضايا الجوهرية: تأجيل ملفات حيوية مثل القدس، واللاجئين، والاستيطان جعلها عرضة للمماطلة الإسرائيلية، بل واستغلتها إسرائيل لفرض وقائع جديدة على الأرض.

2. غياب الضمانات الدولية: لم تتضمن الاتفاقية آليات تنفيذ ملزمة، مما منح إسرائيل مساحة كبيرة للتهرب من التزاماتها.

3. تحويل السلطة إلى وكيل أمني: الترتيبات الأمنية فرضت على السلطة الفلسطينية دورًا وظيفيًا في “حماية” الأمن الإسرائيلي، وهو ما اعتبره كثيرون تناقضًا مع روح التحرر الوطني.

4. تراجع الدعم العربي: اعتبر بعض المحللين أن الاتفاق أضعف الدعم العربي للقضية الفلسطينية، وأدى إلى تطبيع تدريجي للعلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية.

اتفاقية أوسلو في ضوء التطورات اللاحقة

اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 جاء كنتيجة مباشرة لفشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي عقدت لمناقشة قضايا الوضع النهائي، ولم تنجح في التوصل إلى اتفاق. خلال الانتفاضة، تراجعت الثقة الشعبية في المسار التفاوضي، وبدأ الحديث يتزايد عن فشل اتفاقية أوسلو، خصوصًا بعد الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، وبناء الجدار العازل، وتوسع المستوطنات.

أما بعد عام 2007، ومع سيطرة حماس على قطاع غزة، دخلت الحالة الفلسطينية في مرحلة انقسام داخلي، زادت من تعقيد المشهد، وأضعفت القدرة الفلسطينية على التفاوض أو مقاومة السياسات الإسرائيلية أحادية الجانب.

الخلاصة: الإرث المركب لاتفاقية أوسلو

تمثل اتفاقية أوسلو مفصلًا محوريًا في تاريخ القضية الفلسطينية، وحدثًا سياسيًا لا يمكن تجاوزه في تقييم المرحلة الحديثة من الصراع العربي الإسرائيلي. فقد كانت أول اعتراف متبادل بين طرفي الصراع، وأعادت القضية الفلسطينية إلى طاولة السياسة الدولية، بعد أن كانت رهينة للمواجهة المسلحة فقط.

لكنها، في الوقت نفسه، أسست لمنظومة من العلاقات غير المتكافئة، وأسفرت عن كيان فلسطيني هش، دون سيادة حقيقية، ودون إطار زمني ملزم لإنهاء الاحتلال. اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيع الاتفاق، يتزايد الاعتراف بأن أوسلو لم تؤدِ إلى السلام العادل والشامل المنشود، بل فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من السيطرة الإسرائيلية المقنّعة، وفرض وقائع ميدانية تعيق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

المصادر

1. Shlaim, Avi. The Iron Wall: Israel and the Arab World. W.W. Norton & Company, 2001.

2. Khalidi, Rashid. The Iron Cage: The Story of the Palestinian Struggle for Statehood. Beacon Press, 2006.